جميلة ناصر من يافا: "يبدؤون بشتمنا، بمضايقتنا، بإنزال حجابنا عن رؤوسنا. نحن لا نخشى أحدًا. نحن نحافظ على أنفسنا، نحافظ على الدين. يهمّنا أن نحافظ على كرامتنا. وهم يعرفون ذلك ويستغلونه: يعرفون أنهم إذا نزعوا حجابنا، فكأننا لن نستطيع الدفاع عن أنفسنا".
لقد تحوّلت المواصلات العامة، مكان التقاء أساسيّ لتعدّد الثقافات والقوميّات في إسرائيل، في الأسابيع الأخيرة، إلى مركز للتوترات القوميّة. ففي الشهر الأخير، ومنذ العثور على جثث الشبان الثلاثة في الضفة الذين اُختطفوا وقُتلوا، وبشكل أكبر منذ بدء حملة "الجرف الصامد"، هُوجم ما لا يقلّ عن عشرة سائقين عرب في شركة "أيجد" في القدس، في ملابسات مختلفة، خلال السفر وفي الاستراحات، في أثناء مظاهرات عنيفة، ومن دون سبب. ووقعت هذه الاعتداءات في أحياء القدس المختلفة، من جيلو وحتى رَموت. وقد نُشر عن بعض هذه الحالات في الإعلام العبريّ فيما لم يُنشر عن باقي الحالات إلا في الإعلام المحليّ بالعربيّة. يعمل عمر ديواني (26 عامًا) من رأس العمود في شركة أيجد منذ ثلاث سنوات. وقد كان أحد أوائل المعتدى عليهم في موجة العنف العنصريّة الحاليّة.
لم أعرف ماذا حصل
هُوجم ديواني في 8 تموز، الساعة 23:55 ليلًا، في شارع بار كوخفا، في مجمّع جفعاتشبيرا في منطقة التلّ الفرنسيّ. "كنت في استراحة. اقترب مني أربعة شبان وقرعوا باب الحافلة. لم أفتح. ولكن يوجد كباس يُمكّن من فتح الباب من الخارج أيضًا. فتحوا الباب. دخل الشاب الأول. سألني إذا كان معي سيجارة. بالعبريّة. أجبته بالعبريّة بأنني لا أدخّن. أدرك أنني عربيّ ونظر إلى رفاقه وقال: "اصعدوا شباب".بعدها بدأوا بضربي.
"كانوا من المستوطنين، أعرف أنهم من المستوطنين، على رؤوسهم قلنسوات (كيبُوت) وشراريب دينيّة. كانوا في سنوات العشرين من أعمارهم، مثلي" يقول. "لكنهم كانوا أربعة. ضربوني. وبعد عدة دقائق وقعت على الأرض وتلقيُت ضربة في رأسي. لم أعرف ما حدث. كان أحدهم يحمل سكينًا. قمت بعد دقيقة أو دقيقة ونصف ورأيتهم يهربون. اتصلت بصديقي وجاء بسرعة. اتصلت بالشرطة وإيجد والإسعاف".
يقول ديواني إنه قدّم شكوى في الشرطة وإنّ الشرطيين أوصوه بالاتصال مرة كلّ عدة أيام، لفحص ما إذا كان ألقي القبض على المعتدين. لم يتصل في الأيام الأخيرة، لكنه يفترض أنه كان سيتلقى خبرًا لو تمّ إلقاء القبض على المعتدين. منذ الاعتداء وهو في إجازة مرضيّة، ويعاني آلامًا في الرقبة ويخضع للفحوصات الطبّيّة، بما فيها "سي تي"و"إم آر آي". وهو ينوي تمديد الإجازة المرضيّة ويقول إنه يخشى العودة إلى العمل. ويتحدّث سائقون آخرون أيضًا، بعضهم لا يرغبون بالكشف عن أسمائهم خشية إثارة "مشاكل في العمل"، عن الخوف من العودة للسياقة في أعقاب العنف الذي تعرّضوا له.
يدّعي المحامي أسامة إبراهيم الذي يمثّل عدة سائقين، أنّ شركة إيجد لم تقم بما يجب من أجل منع الاعتداءات ولا من أجل إعادة تأهيل السائقين الذين هُوجموا. ويقول إنّ سائقًا واحدًا على الأقل من السائقين الذين تعرّضوا للاعتداء قدّم استقالته من العمل مؤخرًا، وذلك بسبب تخوّفه من تكرار أعمال العنف. "لم تكن الشركة مهيّأة بما يكفي لمواجهة هذه الأحداث. لقد أرسل السائقون إلى أماكن كانت تجري فيها أعمال شغب. كان بإمكانهم استبدال مسارات الحافلات، وأن يكونوا على اتصال بالشرطة سلفًا من أجل التجهّز. وكان بإمكانهم أن يرسلوا سائقين يهودَ إلى مناطق معرّضة للشغب، إذ أنّ العنف لم يكن ليُوجّه إليهم، بطبيعة الحال"، يقول إبراهيم. زدْ على ذلك، يقول، إنّ أيجد كانت ملزمة بتوفير الاستشارة النفسانيّة للسائقين الذي تعرّضوا للصدمات. "كان بالإمكان مساعدتهم على مواجهة ما حصل، ومحاولة إعادتهم إلى الروتين بأسرع ما يمكن. هكذا كان بوسع الشركة منع وضعيّات يترك فيها أشخاص العمل بسبب الخوف. لو رأى السائق أنّ مشغّله يدعمه ويقف إلى جانبه، فأعتقد أنّ ردّه كان سيكون مختلفًا، ولم يكن ليستسلم ويترك".
ويقول بعض السائقين إنّ أيجد على اتصال مع الشرطة، ومن المفروض بها أن تضع شرطيّين سريّين في الحافلات. ويتشاطر بعض السائقين الشعور بأنّ الشركة لا تدعمهم، وحتى إنهم يدّعون تلميحًا بأنها معنيّة بإخفاء ظاهرة الاعتداء على السائقين وكنسها. ومقابل ذلك، هناك آخرون يمدحون الشرطة على التفهّم الذي تبديه تجاه وضعهم النفسانيّ وبأنّ أيجد تسمح لهم بعدم العودة إلى العمل ريثما يتحسّن شعورهم".
وجاء من أيجد: "لقد حدثت فعلاً عدة ممارسات عنيفة ضدّ سائقين من أصل إثنيّ آخر، وضدّ حافلات إيجد في القدس. ووقعت أيضًا، مؤخرًا، اعتداءات على حافلات في القدس، قام بها مشاغبون على خلفيّة قوميّة جليّة. إنّ شرطة لواء القدس تعالج كلّ حادثة يُبلّغ بها بشكل حازم، ولذلك لا نجد أيّ حاجة للتوسّع في هذه المسألة".
وجاء من شرطة القدس: "الحالات معروفة لنا. ويمكن أن نقول بالتأكيد إنّنا نقوم بنشاطات مكشوفة وسريّة في هذه المسألة، من أجل العثور على المعتدين. لا يمكن في هذه المرحلة الحديث عن نتائج هذه النشاطات".
المقطورات تفرغ من الركاب
يقول حسام عبد من سكان حيّ شعفاط في القدس الشرقيّة، إنه منذ مقتل الطفل محمد أبو خضير، فإنّ الغالبية الساحقة من سكان الحيّ لا تستخدم القطار الخفيف. ويتحدّث حسام عن الخوف والرّيبة المتبادليْن بين مسافري القطار الفلسطينيّين واليهود في الأسابيع التي تلت حادثتي الاختطاف والقتل وبدء الحرب.
كانت خطوط القطار الخفيف المسار الأول والأكبر الذي ربط بين غربيّ القدس وبين شرقها، بالمعنى الاجتماعيّ لا الجغرافيّ. فبعد سنوات من الحياة المتوازية والمنفصلة بشكل شبه تام، تلت فترة العمليات التفجيريّة في الحافلات في نهاية سنوات التسعين ومطلع عام 2000، فجأة بدأ اليهود في القدس بالتقاء فلسطينيّين مقدسيّين بأعداد كبيرة ويوميًا: في القطار الخفيف.
ويقول عبد إنّ قسمًا من سكان الأحياء الشماليّة-الشرقيّة في القدس يربطون الآن بين مقتل أبو خضير وبين التعايش الذي نشأ في القطار الخفيف، بالذات. "كان المستوطنون في السابق يخافون دخول شعفاط. ومنذ بدء تسيير القطار الخفيف، اعتادوا على الدخول هنا"، يقول.
صحيح أنّ القطار عاد للعمل في الأحياء الشرقيّة بشكل كامل، إلا أنّ محطات القطار التي أحرقت في المواجهات التي اندلعت في أعقاب القتل لم تُصلّح بعد. السكان لا يصعدون إلى القطار –ولا يصلون إلى غرب المدينة أصلاً- إلا في الحالات الاضطراريّة فقط، يقول عبد. لقد توقفت المشتريات في غرب المدينة بشكل شبه تام، يقول. ومنذ بدء حملة "الجرف الصامد" يقوم فلسطينيّون من القدس الشرقيّة بمقاطعة المنتجات الإسرائيليّة، وذلك لعدم تمويل الحرب في غزة ولو بشكل غير مباشر. وهكذا، ترى القطار الخفيف خاليًا من العرب، وذلك قبل أن يتحوّل إلى رمز للمدينة التي توحّدت بشقّيْها.
هذا ليس خوفًا، هذا خجل
في يافا أيضًا تحوّل السفر في المواصلات العامّة إلى حلبة مركزيّة للتوتّر. تقول جميلة ناصر، أم لثلاثة أولاد وعمرها 52 عامًا من يافا، إنها تمتنع في الأسابيع الأخيرة عن الذهاب إلى طبيبتها في عيادة تقع في بات يام، والحصول على الوصفة الطبيّة التي تحتاجها. يكمن السبب في خوفها من ركوب الحافلة، مع أنها تصرّ في واقع الحال على أنه ليس خوفًا.
"نحن موجودات في وضعيّة غير مريحة: يبدؤون بشتمنا، بمضايقتنا، بإنزال الحجاب عن رؤوسنا. الأمر غير مريح. نحن لا نخاف أحدًا. هذا ليس خوفًا، إنه خجل. نحن نساء ونحافظ على أنفسنا، نحافظ على الدين. يهمّنا أن نحافظ على كرامتنا. وهم يعرفون ذلك ويستغلونه: يعرفون أنهم إذا نزعوا عنا الحجاب، فكأننا لن نستطيع الدفاع عن أنفسنا."
في الأسابيع الأخيرة تذهب ناصر سيرًا على الأقدام إلى أيّ مكان، وهي تتردّد في إرسال الأولاد إلى أماكن ترفيهيّة، وخصوصًا بعد أن نشر موقع "يافا48" بالعربيّة "تحذير سفر" إلى مجمّع عزريئيلي في تل أبيب وإلى سينماسيتي في ريشونلتسيون.
وتتحدّث يهوديت إيلاني، الناشطة الاجتماعيّة في يافا، عن عدّة نساء أخريات اُعتدي عليهنّ مؤخرًا في المواصلات العامّة، وتشدّد على أنّ الكثير من النساء العربيّات يمتنعنَ في الآونة الأخيرة عن السفر في الحافلة حتى في الحالات الضروريّة، مثل زيارة الطبيب أو التوقيع في مكتب التشغيل. وتضيف ألوني أنّ المحصلة المباشرة للخوف من استخدام المواصلات العامة هو الإقصاء عن الحيّز العام ومنع الاستفادة من الخدمات العامة.
نصّار نفسها لم تواجه الاعتداء مؤخرًا، لكنها تقول إنّ صديقتها ضُربت حين سُمع صوت الصافرة أثناء سفر الحافلة، وتوقف السائق كي يسمح للمسافرين بالترجّل: "رجلان متديّنان لحقا بها وضرباها. السائق رأى ذلك ولم يقل شيئًا. كان يجب أن يردعهما عن المسّ بها". وتقول جميلة إنّ صديقتها اضطرّت للهرب من المكان، أثناء اندلاع الصافرة. ومنذ الحادثة فإنّ مشغّلي صديقتها يموّلون لها سيارة أجرة لتقلّها إلى ومن العمل، كي لا تضطرّ للسفر في الحافلة.
*
بشراكة مع "كلنا"، مبادرة من أجل مجتمع عادل وتعددي