عوفاديا بنيشو
يوم الخميس المنصرم قمت بمعانقة قاتل.
القاتل يبلغ من العمر 27 عاما.
قبل عشرة أعوام قام بقصّ حنجرة شقيقته بموس (سكين جيب) وقتلها.
قام بذلك برفقة شقيق آخر.
القتيلة لم تؤذهم. عاشت حياتها القصيرة، حتى سن عشرين عاما ونيف، وسعت الى تحقيق أحلام نساء يافعات – أن تُحِبّ، أن تُحَبّ، أن تتزوّج، أن تنجب أطفالًا، أن تتعلم وتتطوّر، وتبني مسيرة مهنية، أن تكون سعيدة.
لكنها لم تنجح بذلك.
لو لم أكن أعلم أن الحديث يدور عن قاتل، ربما كنت أحدثكم بأن من يجلس أمامي هو شاب مثالي، ذو ملامح بهية، خجول. ليس طويل القامة، متفتل العضلات، نوع من البلطجي، ولكنه بلطجي رقيق. يظهر عليه الهدور، هو لطيف ومهذب. حديثه معتدل، لغة جسده ممتنعة، يتحدث العبرية بطلاقة.
لكنت أخمّن أنه ربما معلم أو مدربّ للفنون القتالية، شخص درّب نفسه سنين طويلة ووصل الى مرحلة الهدوء الداخلي. محارب يفقه بأساليب الشرق الأقصى.
هو ليس كذلك.
إنه عربي، من أصول بدوية، ونشأ في عائلة عنيفة وسيئة في مركز البلاد.
10 أعوام في السجن حوّلته من فتى جاهل وعنيف لم يكن يعرف شيئا في الحياة والذي قام بقتل شقيقته بيديه، الى شاب يافع واعٍ ويملؤه الندم والحزن، يتحدث عن ألمه كما لم يحادث أحدا من ذي قبل.
לקריאת הראיון בעברית – הקליקו כאן
هنا سأسميه "القاتل"، وشقيقته "الضحية" أو "الشقيقة"، وذلك لسببين: 1. مصلحة السجون لا تسمح بذكر تفاصيل القاتل الذي يُجري مقابلة صحافية، كي لا يتم تبجيل وتضخيم لاسمه وألا يُؤذى أحد من أقارب الضحايا. 2. القاتل نفسه قال إن ذلك قد يعود عليه بالضرر ويعرض حياة أمه وبقية أشقائه وشقيقاته للخطر.
لهذه الأسباب ذاتها، سنتنازل عن التفاصيل الشخصية الإضافية، مثل عدد النساء التي تزوج منهن والده البدوي، عدد أطفال كل واحدة منهن، وما هي طبيعة العلاقات بينهم، مرتبتة القاتل في ترتيب الأشقاء والشقيقات، وما الى ذلك. سنكتفي بالقول إن الحديث يدور عن عائلة بدوية تقطن في مركز البلاد، في منطقة اجتماعية – سياسية مهمشة يشوبها العنف والإجرام.
"كانت تتلقى الضرب من الجميع. الشتائم. البصق. "زانية". كان مسموحا".
الضحية كانت في الـ17 من العمر، عندما أبلغهم والدهم، كما هو متعارف لدى البدو، إنه قام بعقد الخطوبة بينها وبين نجل أعز أصدقائه. هي عارضت بصوتٍ واهنٍ، عبر والدتها، ولكن الصفقة قد أبرمت بين الأبوين. القاتل كان حينها في الـ14 من العمر، ولم يكن قاتلا بعد.
الأخت كانت تعاني اضطرابات نفسية والاكتئاب. بعد مدة تحدثت مع والدتهم وقالت إنها ستُلغي الخطوبة – إنها غير مستعدة أن تقترن برجل لا تحبه ولا يحبها. والأنكى من ذلك: كتشفت إنه هناك شاب آخر هي معنية به، وهو يريد تزوجها. مذ تلك اللحظة بدأت ساعة الرمل لحياتها القصيرة بالتكتكة. وبحسب تعبير القاتل: "والدي سمع بذلك من أمي وانفجر. ما فعلته أختي كان بمثابة الانتحار. هذا مسّ بشرف العائلة وكان واضحا أن والدي لن يقبل ذلك".
ماذا يعني بأن الوالد انفجر؟ ما حدث؟
"انفجر عليها. على شقيقتي. هذا يعني عنف جسدي، عنف نفسي، وعنف كلامي صعب جدا. حاولت أمي أن تحدثه وتهدئ من روعه، ولكنه قال: لا مجال للحديث هنا البتّة. لن تقوم بإهانة شرفنا أمام عائلة صديقي".
أي أنه منذ لحظة أن لغت الخطوبة، باتت هي معرضة للخطر؟
"كلا. حينها لم تكن بعد. ولكن ما إن تلقت كل أنواع العنف، وليس فقط من جانب الأب. أبي أظهر لنا جميعا الطريق، كافة الأخوة والاعمام وأبناء الأعمام، عمليا اعتبروها منفية وتبرّوا منها".
صَف لي معنى ذلك، رجاءً
"أخجل من الوصف…
تعرضت للضرب المبرح من الجميع شتائم. بصق. "زانية". "شرموطة". كما ذكرت، عنف بشتى أنواعه وأشكاله. إهانات فظيعة. الكل كان يأتي، ويضربها. كان مسموحا أن تفعل ما تريد بها".
أبوك أباح دمها.
نعم.
وأنت شاركت بذلك.
"نعم. كلنا شاركنا بذلك. كانت في المنزل، ولم تغادره تقريبا أبدا، لم يكن أحد يتحدث معها، حتى خارج المنزل. كل البيئة القريبة، كل المنطقة. الكل يدري بالقصة. الكل ينكّل بها. هكذا استمر ثلاثة أعوام".
وماذا عن أمكم؟
"أمنا، ما كان بوسعها أن تفعل"؟
لا أعرف، محاولة الدفاع عن ابنتها؟
"كيف؟ لا قوة لها. هي امرأة أيضا. والدتي أيضا تعرضت للضرب طوال حياتها. حاولت الانتحار خمس مرات. عندما كنت رضيعا، بسن سنة ونيف، حاولت الانتحار. لم تربيّني أصلا. لم تقم بواجبها. كانت مصابة بالإكتئاب. أختنا الكبرى اهتمت بنا ورعت شؤوننا. هكذا هو الحال في العائلة، الكل تعرض للضرب من الجميع. دومًا. حتى أنا. تعرضت للضرب من كل حدب وصوب. كنت طفلًا منزويًا جدًا. لم يكن لدي شخص ألجأ اليه. لم يكن لدي أصدقاء. لا يوجد مع من ألعب. العفن هي اللغة الوحيدة في البيت. الأولاد مساكين. ولكن النساء وضعهم يرثى له أكثر. لا تستطيع أي منهن أن تقف بوجه الرجل. كانت هذه نهايتها".
وأنت، ماذا فكرت حينها، كشقيقها، ابن الـ14؟
"أن والدي على حق. أخجل بقول ذلك… إنها عاهرة. إنها تُخجل العائلة. إنها تمسّ شرفنا جميعًا. فكل ما تتلقاه من ضرب تستحقه".
هل أحببتها؟
"للحقيقة، ليس فعلًا. لم يكن أي اتصال بيننا تقريبًا".
ولكنكم أخ واخته – من الأم ذاتها حتى.
"صحيح".
وبعمر متقارب.
"صحيح".
أكرهتها؟
"كلا. لم أكرهها. لم أكن أعرفها. لم أعرف من هي. لم أفهمها. غضبت عليها. لماذا تهين شرفنا بهذا الشكل. نظرت عليها عبر أعين أبي. لم تكن إنسانًا… كانت شيئًا غريبًا. وليس شخص مقرب مني بالفعل".
عندما كنتم صغارًا، بالطفولة، في الحديقة، ألم تلعبوا سويّة؟
"كلا. حتى حينها في البيت كنا كالأطفال الأغراب. ليس أنا وهي فحسب – عندنا لا توجد علاقة بين الأبناء والبنات. لا نلعب سوية، لا نجلس معًا. لطالما قالوا لي "اذهب واجلس مع إخوتك. لا تجلس مع البنات".
لماذا؟
"لأن البنات أمر مختلف. هذا غير متعلق بي".
ما تعني بـ"البنات"؟ ما هي "البنت"؟
"البنت هي مثل شيء قصير. لا تستطيع اتخاذ القرارات بشؤون حياتها. إنها ضعيفة، هي… لا شيء. لديها وظائف عليها تنفيذها. فقط. هي غبية. وهي خطرة".
خطرة؟
"نعم. في أحد الأيام قد تتسبب بفضيحة للعائلة. قد تمس شرفنا. وحينها لا مفر، سنضطر أن نفعل ما يتوجب على الرجال فعله".
منذ أي سن وأنت تسم ذلك؟
"دوما. بكافة الأعمال".
وهل هذا صحيح بالنسبة لكافة بنات العائلة؟
"نعم. كل الفتيات".
إذا ما هو بالفعل الذي يعرّف ما هي البنت. يوم ما ستتصرف بشكل مخجل وحينها…
"نعم. بالضبط. هذا أيضا يعرّف ما هو الرجل. إذا كانت شقيقتك تقترف أفعالًا مُخجلة ولا تقتلها، لست رجلًا. تُعرّف رجولتك بحسب الفضيحة التي تصنعها مستقبلًا إحدى شقيقاتك، عندما تهين شرق العائلة".
وجاء هذا اليوم.
بعد ثلاثة أعوام كانت خلالها كيس اللكم العائلي والمحلي، مصابة ومكدومة بجسدها وروحها، توّجهت الضحية عبر طرف ثالث الى الشرطة. جاؤوا وأخرجوها من المنزل الى دورية الشرطة، نلقوها لتلقي علاج طبي، ومن هناك الى ملجأ للنساء المضروبات.
لم تكن العائلة تدري أين هي. تم إنقاذ حياتها، مؤقتًا.
"يوم ما ستصنع الفضيحة وتجلب العار للعائلة" – تظاهرة إحتجاجًا على قتل النساء في اللد. نيسان/ أبريل 2017. تصوير: إكرام حُجيرات
كان بالإمكان ربما توّقع أن يحدث الأمر المؤدي الى التهدئة. وها إليكم، جاء شخص آخر ونفذّ المهمة بدلًا منهم. كانت شوكة في حلقهم، لا يستطيعون ابتلاعها ولا تقؤيها، وفجأة دخل طرف خارجي وأخذها. اختفت آثارها. كان بإمكانهم ربما أن يهنأوا بهذا المخرج، أن يتركوا الفتاة التعيسة على حالها تعيش حياتها، ومواصلة عيش حياتهم.
ولكن لا. ليس هذا الوالد. ليس هؤلاء الإخوة. لا أبناء الأعمام ولا هؤلاء الأعمام والأخوال. لن يتركوها. مجرد معرفة أنها استفاقت في صبيحة يوم ما وغادرت منزل والدها، بعد أن ألغت الخطوبة و"أهانت شرف العائلة" أقضّ مضاجعهم. وبالأخص كما يقول، إنها توجهت الى الشرطة الإسرائيلية. الشرطة الإسرائيلية! هذا بات بمثابة الخيانة. لم يتركوها على سبيلها وحسب، بل إنهم لم يتقبلوا أمر اختفائها، أصيبوا بهاجس قوي ورغبة شديدة بتقصي آثارها بغرض إستنفاذ الحكم على ما فعلت، والحكم كان واحدًا: الموت.
مرّت ثلاثة أعوام في الملجأ.
أعادت الضحية تأهيل حياتها. تلقت العلاج. تعافت. صنعت صداقات جديدة. تعززت قواها. حصلت على دعم وحماية. أنهت تعليمها. درست القانون بالجامعة طوال سنتين عبر المراسلة. باشرت بالتخطيط لبقية عمرها. بدأت بنسج الأحلام.
وخلال هذه الفترة، يقول، بين سن 14 و 17 عامًا، الكل كان يضغط عليه يومًا تلو يوم، في العائلة وفي الحلقات الاجتماعية الأوسع، العابرة للأجيال:
"أنت صفر، لست برجل".
"أنت عائلة بلا شرف"
"أهانت شرفكم، فضحتكم، وخرجت بكفيّ حُنين".
"هذا دورك. وأنت لم تنفذ المطلوب منك".
"والدك، هو رجل بلا كرامة أو شرف".
"أنت ابن بلا شرف".
في المنزل، والدهم كان يتمشى ويعتصره الألم والغضب. يقول لهم: "يجب أن نقفل هذا الملف". وهم فهموا بالضبط ما كان يقصده. لا يمكن أن تبقى على قيد الحياة. عليها أن تموت. هذه المهمة ملقاة على أكتاف أشقائها. هم المسؤولون عن استرداد شرف العائلة. هذا ما يتوخاه منهم والدهم.
"وقفت مشدوهة. لم تتحرك".
عملوا جاهدين وحققوا، لم يتنازلوا حتى عثروا على طرف خيط يوصلهم إليها. طوال عامٍ كامل احتفظوا بهذه المعلومات لأنفسهم، وحاكوا حولها الخيطان رويدًا رويدًا، وهم يستقربونها تجاههم. إنتحل الشقيق الأصغر شخصية شاب "محترم" يتصل بها ويحاول التخفيف عنها. طوال عام كامل، كانت على علاقة هاتفية فقط به، كسب ثقتها، كصديق، كشخص تستطيع التحدث اليه، الاعتماد عليه.
بعد نحو عامٍ من معرفتهم مكان اختباءها، وصلت معلومات أنها تستعد للسفر لزيارة أحد الأقارب في شمال البلاد. كانت هذه اللحظة التي انتظروها طوال أربعة أعوام. نصبوا لها كمينا في موقف سيارات كبير، وفي الساعة المرجوة، وجدوها وهي في طريقها الى الحافلة العمومية، نادوا عليها باسمها بصوتٍ عالٍ. تلفتت ونظرت إليهم. وهو يقول إنها وقفت مشدوهة مجمدة في مكانها ولم تحاول الفرار حتى.
كيف كان شكلها؟
"مختلف. لا تشبه كيف أذكرها بأي شكل من الأشكال، ورغم ذلك مبارة تعرفنا عليها. كانت ترتدي بنطال جينس وقميص. دون غطاء رأس/ حجاب. كانت جميلة. بدت سعيدة".
ولم تحاول الهرب؟
"كلا. تسمّرت في مكانها. لم تحرّك ساكنًا".
من الصدمة.
"نعم. كانت تعرف أن اللحظة قد ولّت. أنا واثق من ذلك. كل يوم كانت تفكر متى سيحدث ذلك. كانت تدري كما كنا جميعنا ندري. لا شك قالت لنفسها – انتهى. حانت ساعة رحيلي".
ربما تسمرّت في مكانها كالأرنبة المذعورة على شارع عندما تضيء أنوار السيارات عليها فجأة قبل أن تدهسها السيارة.
"نعم، هكذا بالضبط. هذا وصف دقيق للحالة".
اصطادوها ودفعوها عنوة الى داخل السيارة، الى المقعد الخلفي. استعادت حيلتها وحاولت أن تحارب على حياتها. ولكن لما كانت بيدها حيلة.
هو يصمت. ويصمت. ويصمت.
حدثني…؟
"شقيقي كان السائق. هي كانت بين يدي. تتفتل. أمسكتها بقوة. هي استعرت وجن جنونها أكثر. لم أنجح بالسيطرة عليها. أخذت الموس وطعنتها في عمق العنق. نزفت بشكل حاد. وتوقفت عن الحراك. لكنها لم تكن ميّتة. كانت لا تزال بحالة وعي. مستلقية. هادئة. الدم يسيل على المقعد".
المزيد من الصمت. الطويل.
كيف استطعت؟؟؟
"لا أعرف. جسدي بأكمله كان يرجف. لكني فعلتها.
أنا قتلتها".
ماذا مرّ برأسك في تلك اللحظة؟
"أنت تقوم بالعمل الصواب. انتظرت ذلك أعوامًا طوال. لن تجبن الآن. سيكون أبوك فخورًا بك. إفعلها. كن رجلًا. هذا الصواب".
والمشاعر؟
"خوف شديد. رعشة ورهبة. رجفت دون هوادة".
وأنت، أين كنت أنت؟
"أنا لم أكن. أنا أيضا لم أعرف من اكون. كنت فاقدا للاتصال كليا بما حدث، بما أفعل. كنت أشبه بالآلة".
آلة قتل
"نعم. كان أشبه بالعملية العسكرية. تجهزنا طوال سنين. خططنا لسنين. دعمنا أحدنا الآخر. وكأننا نخرج في عملية عسكرية، ويجب أن تتغلب على الخوف وتفنيذ المطلوب والمرجو منك. رجال".
ما حدث بعدها؟
"نزلنا الى طريق جانبية. أخرجناها من السيارة. كانت لا تزال على قيد الحياة. شقيقي أتم العملية. طعنها حتى تأكد من مماتها. نطقت باسم اختنا الكبرى ثلاث مرات ولفظت نفسها الأخير".
قاموا بدفنها بمساعدة أقارب، وعادوا الى البيت.
القاتل كان حينها في الـ17 من العمر. يقول إنه دخل غرفته في منزل والديه وانهار.
كم من الزمن احتجت لتفهم ما فعلت؟ أن تفهم أنه لم يكن هناك سبب، أنها لم تستحق أن تموت؟
"كم من الوقت؟ دقائق. في الليلة ذاتها. في تلك الليلة انقلب عليّ العالم أجمع. فهمت أنني اقترفت خطأ عمري. أسوأ وأقبح ما يمكن اقترافه. باشرت بالبكاء دون توقف. بتّ أتوّجس، أهذي وأهلوس. طوال الوقت شاهدتها. شعرت أنني أخون والدتي. أختي الكبرى. لم يكن بوسعي أن أنظر لوالدتي في عينيها. بعدما علمت أمي بذلك، لم تحدثني طوال أربعة أعوام. وشقيقتنا الكبرى لم تحادثني 8 سنوات.
المعاناة يومية. أينما نظرت شاهدتها هي فقط. صليّت لله أن يمسكوني ويحبسوني. أن أدفع ثمن فعلتي. تمنيت العقاب. لم أستطع العيش".
بعد أربعة اشهر لُبيّت صلواته. اقتفى محققو الشرطة آثاره واعتقل. بسبب كونه قاصرًا، حُكم عليه بالسجن 12 عامًا. الشقيق الثاني، الأكبر، تلقى حكمًا أكثر صرامة.
"قلت لنفسي إنني حصلت على بطاقة الدخول الى عالم الرجال". تصوير إعادة تمثيل: شاترستروك
"لكل سجين لحظة اختيار"
غريب، ساعات من الحديث، ولم يذرف دمعة واحدة، ورغم ذلك، في الجمل التي ينطقها أسمع بكاءه طوال الوقت. بالإمكان الشعور بأنه يبكي دون دموع.
يصف السنوات الأولى في السجن كنوع من انفصام الشخصية. من ناحية، من يصل هناك لأنه قتل على خلفية "تدنيس شرف العائلة" يحظى باحترام الملوك. إنه رجل بكل ما للكلمة من معنى. سيد الرجال. هناك تدريج واضح ومكانته مرموقة، عالية، إنه محمي، يحظى بتدعيم ودعم من الآخرين لكل ما فعله. حتى في دار والده، حوّل الرجال له رسائل التقدير، الدعم، والتقدير.
قمت بواجبك.
"قلت لنفسي إني حصلت على بطاقة الدخول لعالم الرجال. الآن يمكنني أخيرًا القول إنني رجلٌ. إنني قويّ. ولكن في داخلي كنت أعلم كم أني ضعيف. كم تعيس ما قمت به. أعلم أن كل شيء كذب".
"في الليالي كنت أنهار. أبكي عويلًا دون انقطاع. بصمت. طوال أعوام. كل ليلة. كانت تأتيني في الأحلام… لا أنبس ببنت شفّة. كنت منغلقا على ذاتي جدًا. كل ليلة تتكر عملية القتل. الدماء. الأصوات. ماذا فعلت. يا لهذا العمل الفظيع، فعلٌ محظور. قضيت على حياة انسان آخر. ليس مجرد انسان، شقيقتي، أختي! أسفتُ. ندمتُ. كرهتُ نفسي. لم أكن أفهم كيف تمكنت من فعل ذلك.
في السجن بالإمكان الحصول على إعادة تأهيل وعلاج، تتحدث مع عاملات اجتماعيات، لذا بعد زمن، دربي كان واضحًا لي".
ماذا تقصد؟
"لكل سجين هناك لحظة اختيار. هناك قوى كبرى في السجن تجذبك نحو عالم الإجرام. إذا منحتهم السطوة عليك، وتواصلت معهم، ستصبح هذه حياتك. تقف وتختار – هنا أو هناك. فرضوا عليّ مسؤوليتهم، أرادوني أن أكون منهم. كان هذا شديد الإطراء ومغريًا بحق. ولكني اخترت خياري الشخصي. اخترت الطريق الحسن، وليس طريق السوء. لم أكن يوما مجرمًا ولما كنت أرغب بأن أصبح كذلك".
أنت قتلت شقيقتك
"صحيح. وأتحمل مسؤولية ذلك. اليوم أعي ما فعلت. ولكني أقول لك إني لم أكن مجرمًا. إن الإجرام لم يستهويني يومًا. لا المخدرات. ولا شيء. يوجد الكثير من الإجرام والمخدرات حولي، ولكني لا أمسّها. أعلم أنه يصعب فهم ذلك، ولكن قتل شقيقتي لم يكن مرتبطًا بعالم الإجرام. إنه أمر… من قسم آخر… هذه أمور أخرى. كنت طفل عادي. طالب بالثانوية. تعرفين أنني كنت تلميذًا متفوّقًا؟ ما لي ولكل هذا؟ ولكن الحقيقة، أنني قتلت. وفي البيت وبالسجن الكل كان يقدرّني على ما فعلت. في العطل كنت أخرج الى بيت والدي. وهناك الكل يستمر بقصة سيّد الرجال هذه، فعلت ما توجب فعله. كل الاحترام لك".
إذا أنتَ عمليًا تلوم والدك ورجال العائلة لممات شقيقتك، بسبب الرسائل التي نشأت عليها كطفل؟
"كلا، كلا، لا. هذه هي الخلفية. هذه التقاليد والأعراف. أنا اقترفت الفعلة. عانيت سنوات من الغضب والسخط الكبيرين جدا على والدي. في النهاية فهمت إنه هو أيضُا مرّ بما مررته أنا. هو أيضا عانى العنف الشديد كطفل وكفتى. هذا أمر معطوب. وهذا يعود الى ما لا نهاية. فقط العنف والألم والخوف".
ولكن الثمن الأعلى تدفعه النساء. هن يُقتلنَ. لا أنتَ ولا اخوتك ولا أبناء أعمامك.
"صحيح".
من المذنب بمقتل شقيقتك؟
"أنا. أنا قتلتها. لن أتوجه الآن الى اتهام المجتمع والعائلة والدولة والعالم أجمع. في بداية سجني، ربما كنت أستخف وأقلل من حجم فعلتي. لكني تعلمت أن أتحمل المسؤولية الكاملة. وبعد بضعة أعوام في السجن اخترت طريقي. وهذا المسار هو الانقطاع عن أبي وطرفه، الحصول على غفر والدتي وشقيقتي والتواصل من جديد مع النساء في العائلة".
"من يمسّ بشرق العائلة هو أنا". تظاهرة إحتجاجًا على قتل النساء في اللد. نيسان/ أبريل 2017. تصوير: إكرام حُجيرات
كفى!
في السجن دخل الى مسار إعادة تأهيل. تعاون مع كل شيء إيجابي عُرض عليه. أخذ كل خدمة ودعم محتملين. أنهى دراسته الثانوية، وتم تعيينه كمساعد تدريس في مدرسة الأسرى بالسجن. في مرحلة ما، اعتبره الطاقم كشخصية إيجابية قد تلائم برنامج إعادة تأهيل مميز وناجح جدا – برنامج "قوس" في مصلحة السجون. وافق، وتم قبوله. "فهمت أنه عليّ أن أنقذ ذاتي. يمنحونك هنا فرصة لا تُكرر. لا يحصل عليها أي كان".
يتم نقل المشاركين في البرنامج الى منشأة سجن مخصصة، منفردة. تستمر العملية سنتين ونصف. يوافق السجين المشاركة بلقاء علاجي جماعي يومي يسيّره طبيب نفسي، ديناميكية جماعية عميقة ومكثفة. في المقابل فهو يلتزم بخوض علاج فردي خاص أيضًا. بمفاهيم علاجية – الحديث يدور عن كثافة شبه غير مسبوقة. يضطر السجناء أن يحطّموا كافة القوانين الاجتماعية المتبعة في السجن: عليهم التعاون، أن يفتحوا، أن يعبّروا عن المشاعر، البكاء بجنب الآخرين، فقدان السيطرة، أن يتعلموا الاعتماد على الغير، الثقة بالغير. من ينكسر، يحظى بدعم مكثف من المحادثات، العاملات الاجتماعيات، المعاجات والمعاجين، تدخل نفسي سيكولوجي اذا تطلب الأمر. كل شيء بغرض أن يقف من جديد على القدمين. والذي يفشل بعد كل ذلك، يعود الى السجن، ليواصل قضاء محكوميته كالعادة.
مرّ بأزمات. إنهار أكثر من مرة. وكاد أن يستسلم. لكن شيئًا ما لداخله اشتعل وأرجعه الى الدرب التي اختارها. يقول إنهم علموه من جديد من هو، من يجب أن يكون، ما هي المرأة، وما هو الرجل، ما هي المحبة، وما هي الحياة.
"فهمت أنني نفذت ما نفذته لأنني لم أكن وفيًا لنفسي. كنت طفلًا ضعيفًا وغبيًا، عشت في ظل والدي. كنتُ وفيًا للتقايليد السيئة، الغبيّة، الوحشية، وقد خُنتُ كل ما كان غاليًا على قلبي".
اليوم هو بمثابة عامل خارجي، يخرج يوميًا من السجن ليوم كامل من العمل المنظم والمراقب في مصنع خارجي، ويعود فقط للنوم. لا تزال تنتظره سنتين من السجن.
قبل ثلاثة أعوام عندما خرج في عطلة، سافر لزيارة قبر أخته. حتى ذاك الحين، لم يكن يجرؤ على الدنو من المقبرة. لم يكن بمستطاعه. "طلبت منها المغفرة. كل شيء انفجر وخرج. جلست ساعتين أبكي ناحبًا، بكيت وبكيت على قبرها. طلبتُ أن تسامحني. آمل أنها سمعتني. آمل أنها غفرت لي".
أصاب العائلة كسرٌ كبير. بعد عملية القتل واعتقال الأبناء، والدته وشقيقته الكبرى غادرتا بيت والده وانتقلتا للعيش في مكان بعيد. شاهدن التغيير الذي مرّ به، وغفرتا له، كل بدورها. الأب من جانبه لا يحب هذا التغيير الذي مرّ عليه. ابتعدا يومًا بعد يوم، واليوم يكاد لا يكون على اتصال بوالده.
"بفضل ما مررت به بالسجن، استعدت والدتي وشقيقتي الكبرى. في العُطل أزورهما. فقط الآن، حصلت على النسيج العائلي الذي لم يكن لديّ البتّة في السابق. باشرتا بحياة جديدة وأنا انضممت اليهما. اكتشفت من تكونان. أنا أتحدث معهن بانفتاح. كإنسان. هناك اتصال. هناك عناق. هناك دفء. بكيت معهن على كل آلاف المرات. شاركتهن بمشاعري. للمرة الأولى لديّ عائلة تتحاكى وتتواصل. توجد لغة المحبة. إكتشفت من هي والدتي. لم أكن أعرفها. سيدة مدهشة. قويّة,
فقط مؤخرا اكتشفت من هي شقيقتي، الأخت التي… قتلتها. الآن تعلمت أن أتعرف عليها. وبدأت أحبها… وكلما زادت معرفتي بها، ازداد الألم… كانت ذكية. كانت جميلة. كانت شجاعة. كانت تستحق كل شيء… كانت لديها أحلام، كما أنا لدي الآن، بأن تعيش حياة جيّدة. أن تحبّ. أن تنجب الأطفال، أن تتعلم. أن تنجح. ما اقترفته بحق الجحيم؟ لم تتسبب بضرر لأحد. لم تؤذِ شرف أي كان. كله كذب. كله كراهية للنساء. أنا هو الذي مسّ بشرف العائلة. أنا انتهكته. أنا أذيتها. لم تؤذِ أي إنسان. اليوم أعرف من كان القوي ومن كان الضعيف. من كان شجاعًا ومن كان جبانًا. أريد أن أموت من شدة الخجل. كانت جبّارة. كانت محاربة. كانت تعرف من هي وما تريد. واجهت كل هذه العائلة وقالت – أنا سأتزوج حبيب قلبي فقط. ولذلك ماتت.
طوال عمري، من جيل صفر، سمعت فقط الأقاويل ضد النساء. كراهية للنساء. ولكن من هن أمهتنا؟ نساء. من ربّانا؟ نساء. من أنق حياتي ألف مرة بالسجن عندما انكسرت؟ النساء – المعالِجات، السجّانات. العاملات الاجتماعيات. من عانقني للمرة الأولى بالحياة، في السجن؟ النساء. اقترفت أسوأ ما يمكن اقترافه. من غفر لي وتقبلني؟ النساء، والدتي وشقيقتي الكبرى. تعلمت واليوم أعرف أن النساء هنّ عكس ما أطلعوني عليه في البيت. النساء أقوى وأذكى وأشجع من الرجال. يستحققن كل ما يستحقه الرجال، لا بل يستحققن أكثر بكثير".
كلانا يعرف أنه بينما نحن نتحاور، تُنسج خطط لقتل بضع عشرات أو ربما مئات النساء الشابات أمثال شقيقتك، اللواتي لم يؤذينَ أحد. الآن يجلس شباب أمثالك ويخططون عملية القتل مع الأخوة، أبناء العم أو الخال، والأب يؤشر لهم على الطريق. ماذا تقول لهم؟
للمرة الأولى بكل المقابلة يفقد هدوء أعصابه. يترجل. يلتفت الى الشباك، يعود مُهتاجًا. يجلس.
"كفى!
لا تمسّوا أخواتكم. لا تمسوا النساء في عائلاتكم. أنتم على وشك ايذاء أكثر الناس قربة إليكم. المس بسيدة بريئة، أنتم تمسون بكل عائلتكم، عائلتي تفككت بعد القتل. أنتم تضرّون بأنفسكم.
كل من يرغب بالحفاظ على شرف العائلة، فليحافظ بداية على نفسه. تعرّف على ذاتك، تعلّم ما هو الشرف. اذا كنت ترغب بأن تكون رجلًا، تعلّم معنى الرجولة. هل الرجولة بأن يقتل مجموعة من الرجال سيدة لا حول ولا قوة لها؟ واجهوا آباءكم. أجدادكم. هذه هي الرجولة. أظهروا لهم خطأهم. إنتصروا على مخاوفكم. هذه الرجولة. أن أثبت أنني رجل عن طريق قتل سيدة، هذا بائس. إنه تصرف مريض. هذا التقليد مريض".
وإذا اقترفت الشقيقة أو ابنة العم أو المرأة عملًا خطيرًا أسوأ من شقيقتك؟ واذا واعدن رجلًا قبل الزواج؟ واذا ضاجعن شخصًا ما؟ ماذا حينها؟
"حتى حينها، لا. هذا أيضًا لا يمثل شرف العائلة. هذا كذب. هذه حياتهن الخاصة. اذا كانت هناك مشاكل، بإمكان محاولة حلّها".
ماذا سيحدث اذا تزوجت وكان لزوجتك علاقة غرامية برجل آخر وعلمت بالأمر؟
"بأي حال فهي لا تستحق الموت. وبأي حال، العنف لن يكون خياري. اذا فشل الزواج بالإمكان الطلاق".
هل يوجد بنظرك عمل يستحق الحكم بالإعدام؟
"بالطبع لا. هذا فكر مريض. بل أكثر من ذلك، لا حكم بالإعدام – لا يوجد شيء تستطيع فعله يشرعن العنف من أي صنف كان من طرفي – جسديًا، كلاميًا، أو نفسيًا. سأضطر للتعامل مع كل ما سيأتي بالطرق التي تعلمتها. اساليب التواصل الطبيعي بين البشر. بدون عنف. هي انسان، وتستحق كل الحقوق التي أستحقها أنا".
أحسن لك السجن. بعد 12 عاما تخرج للحرية. تلقيت علاجًا نفسيًا بقيمة مئات آلاف الشواقل، علاج قلائل جدًا هم الأشخاص في الخارج الذين بوسعهم تكفلّه. ماتت أختك. أنت على قيد الحياة. تخرج لحياة جديدة. حياة أفضل.
"هذا صحيح. أخجل بما فعلت. وإني لشاكر في كل يوم على ما حصلت. في السجن أنقذوا حياتي. ورغم كل ذلك، أقول لمن يفكر بالذهاب وقتل امرأة: لا تفعلوا ذلك، ستدفعون ثمنًا غاليًا جدًا جدًا. ستدمّرون حياتكم الخاصة. مستقبلكم. مستقبل عائلتكم أجمع. لن ينتج خير عنه. ستحتاجون إلى العديد من السنوات حتى تباشرون أصلًا بالعودة الى أنفسكم وبناء حياة جديدة".
"التكسير والتحطيم أمر سهل، ولكن الإصلاح صعب جدًا. إقترفت خطأ كبيرًا جدًا. يا ريت لو أن هذه الكلمات تصل لمن يخطط اقتراف الخطأ ذاته، وتجعله يتوقف. أن يفكر. قتلت شقيقتي الطاهرة، البريئة. هذا ألم يخالجني يوميًا، يعتصرني، ولا يفارقني البتّة. إنه جرح عميق في القلب. أحاول بكل طريقة أن أعوّض وأصلح. ولكن معرفة ما اقترفت يداي، الألم الذي سأحمله طوال حياتي، حتى الرمق الأخير. هذا سيبقى معي حتى عندما تصبح لديّ عائلة، حتى عندما أصبح أبًا، عندما أصبح رجلًا صالحًا كما ارغب.
بيديّ، وضعت حدًا لحياة شقيقتي.
ولا يمكن إرجاعها".
ترجمة: شاهين نصّار