أنا إمرأة عربية واعية وأعرف ثقافة المجتمع الذي أعيش فيه. مع ذلك، لم أتوقع أنّ إحدى النساء اللاتي أعرفهن جيّدًا ستقتل يومًا ما، وأنّ الذريعة، "شرف العائلة"، ستقال بصوت عال.
عندما يقولون "شرف العائلة" يعنون بذلك "شرف الرجل". لا يتقبل الرجال بأن تحتل النساء مكانة متساوية في المجتمع العربي. هؤلاء الرجال لا يتيحون للنساء الفرصة بأن يكنّ قويات، واعيات ومستقلات. في هذه الحالة، قرر الرجل في صباح يوم جميل أن يترك كل شيء، هجر أطفالهوزوجته، ولم يفكر للحظة واحدة بما قد يحدث لهم. ولكنه عاد بعد سنوات طوال، وأراد أن يستعيد المكان الذي هجره بإرادته الحرة، كأنّ شيئًا لم يكن. لم يكن مستعدًا لتقبل الواقع الجديد- واقع المرأة التي واجهت صعوبات جمة، وفي المسار الذي خاضته أصبحت إمرأة قوية، واعية ومستقلة، إمرأة غير مستعدة لأن تتنازل عن كل ما اكتسبته في مشوارها.
التقيت بها ضمن إطار عملي، أتت إلينا لطلب المساعدة، ووجب عليّ مساعدتها. لقد كانت إمرأة قوية، واعية وذات حضور. إمرأة أسمعت صوتها في الأماكن التي لم يكن مقبولا فيها سماع صوت النساء العربيات. وفي الأماكن التي لم يكن مقبولا فيها سماع اللغة العربية، رفعت صوتها باللغة العربية، لأنّها لم تكن تجيد اللغة العبرية.
دارت بيننا أحاديث كثيرة، عن كل ألم في البطن، عن كل شعور بالذنب وعن الحياة نفسها. تساءلت بيني وبين نفسي عن طبيعة العلاقة بيننا، هل هي صديقتي؟ كلا، لأنّ المعلومات المتعلّقة بحياتي لم تصل إليها. كنت أحيانًا أعطي أمثلة من حياتي الخاصة، لكنني لم أخبرها بالأمور التي أمر بها. في بعض الأحيان، كانت لدينا نفس التجارب، ولكنني خلافًا لها تعلّمت في حياتي أساليب مناورة العالم الاجتماعي والسير وفق قوانيني الخاصة دون أن أتحدى قوانينه.
لقد كانت إمرأة جميلة ذات عينان تشعان بهجة لم أر لها مثيل في حياتي، رأسها مرفوع، قامتها منتصبة وتحمل الكثير من الأعباء على كتفيها. عندما أكتب عنها بصيغة الماضي تنتابني بقشعريرة حادة. يصعب عليّ محو رقم هاتفها من جهازي المحمول، يتسائل قلبي فجأةً: " وماذا عن الصور المحفوظة فيه؟". عندما أمر في الشارع أشعر أحيانًا بأنّها ستمر في السيارة وتناديني بإسمي. كل اتصال من رقم سريّ يفزعني، وتأخذني الأفكار إليها. لأ أعلم ما الذي يمكنني أن أفعله مع هذه المذكّرات الدائمة.
لقد كانت تعلم أنّ الموت يتربّص بها في زقاق مظلم لأنّ الشر كان يعيش معها، كان يعنّفها ولم يرق له رؤية امرأة واعية- إمرأة عاشت لوحدها سنوات طوال من أجل تربية أطفالها. أنتجت الكثير من العدم وأصبحت إمرأة قوية، حازمة، تكسر القيود والمخاوف ما إذا تعرّض أطفالها ولو للحظة واحدة لخطر ما.
أنا غاضبة، والغضب الذي يعتريني قد يغمر العالم بأسره، قد يقضي على المعتقدات ويقتل التقاليد. القتل يثير السخط، وقتل النساء بشكل خاص يجعلني أيضًا خائفة على طفلاتي وعلى المجتمع بأكمله. الخوف الشخصي هو أسوأ من أي شيء آخر، الخوف من أنّه في كل زاوية يختبأ قاتل لعين مرتزق يفتقر للإنسانية، والذي لن يتردد، مقابل مبلغ ضئيل من المال، أن يقتلني على مرأى من أطفالي ولن يكترث أحد بذلك- لا الشرطة، ولا القانون ولا المجتمع الذي يعرف جيّدًا من هو القاتل، ولكنه يختار الصمت المخيف الممزوج بالذعر. لأنّ من سيجرأ على الكلام سيكون التالي في الدور.
العيش في مجتمع يتقبل قتل النساء بتسامح ومصالحة لا يمنحني راحة البال، كما ويزعجني العيش في دولة تساهم بشكل غير مباشر في قتل النساء. المجتمع الذي لا يدين القتلة، المغتصبين والرجال العنيفين، المجتمع الذي يرى أنّ إطلاق النار في الأفراح هو شيء إيجابي ورمز للشرف هو مجتمع فاشل. الشرطة والدولة لا تفعلان شيئًا لمناهضة ظاهرة الأسلحة المتوفّرة في المجتمع وسهولة الحصول عليها. الشرطة لا تأبه بشكاوى العنف التي تقدّمها المرأة، عندما تقول المرأة: " سأقتل وهؤلاء سيكونون القتلة" الشرطة لا تحرّك ساكنًا قبل وقوع الجريمة بيوم واحد، ولا تفعل شيئًا بعدها. القتلة طلقاء، يحظون بتعاطف المجتمع ويسيرون برأس مرفوع في طريقهم نحو ارتكاب الجريمة التالية.
مسؤولية منع الجرائم القادمة ملقاة على عاتق الدولة، والدولة التي أعيش فيها لا تحرّك ساكنًا. ملاجئ النساء المعنّفات ليست الحل الوحيد، إنّها حل جزئي فقط. التربية حول وجوب تحقيق المساواة بين جميع الناس وتزويد الشرطة بالأدوات المناسبة لمنع القتل وغير ذلك- هذه هي الأمور التي يجب على الدولة تطويرها وتعزيزها بالتعاون مع القيادات الاجتماعية والدينية في المجتمع العربي. ولكنني لا أرى أن أحدًا ما في الحكومة يعنى بهذه القضية.
تعشش في داخلي الشكوك حول صحة الطريق التي أسير فيها. هل النور مخيف؟ هل قد تقتلني المعرفة؟ أليس من الأفضل العيش في الصمت والظلام؟ هل أبقى المرأة التي تستجيب لتوقعات المجتمع لأنّ ذلك أكثر آمانا؟ لا يمكن أن أكون قوية وأهدد السلطة الذكورية الحصرية للرجال في مجتمع يخلّد هذا الشعار دون أن أصاب بأذى. هلي يجب أن أواصل مسيرتي رغم ذلك؟ ألا يعتبر ذلك سلوك أحمق؟ هل أسير أصلا في الطريق الصحيحة؟
قد تقوّض هذه الأسئلة إيماني وحريتي على الصعيدين الشخصي والاجتماعي: تربية طفلاتي وأبناء الجيل القادم متعلقة بذلك. وكلما ظننت أنّ هذا الجيل يسير على الطريق السريع، أصطدم بالواقع البشع الذي يؤكّد لي أنّني- وكل من يفكّر بطريقة مختلفة-نعتبر مخلوقات غريبة عن المجتمع الذي نعيش فيه، وبأننا لا نتكاثر بل نُستبدل فقط. لقد كانت هذه المرأة الشجاعة إحدى ضحايا الظلام، مثلي أنا أيضًا لأنني لا أستطيع التوقيع على هذا النص بإسمي.
—
الكاتبة هي إمرأة فلسطينية مواطنة في إسرائيل، ناشطة إجتماعية في المجتمع العربي في إسرائيل.
*
بشراكة مع "كلنا"، مبادرة من أجل مجتمع عادل وتعددي